وقوله : " وكان أبوهما صالحا " قيل إنه كان الأب السابع وقيل العاشر ، وعلى كل تقدير : فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته . . والله المستعان .
وقوله : " رحمة من ربك " دليل على أنه كان نبياً ، وأنه ما فعل شيئاً من تلقاء نفسه بل بأمر ربه فهو نبي ، وقيل رسول ، وقيل ولي ، وأغرب من هذا من قال إنه كان ملكاً . قلت وقد أغرب جداً من قال هو ابن فرعون ، وقيل إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة .
قال ابن جرير : والذي عليه جمهور أهل الكتاب أنه كان في زمن أفريدون ويقال إنه كان على مقدمة ذي القرنين ، الذي قيل إنه كان أفريدون ، وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل ، وزعموا أنه شرب من ماء الحياة فخلد وهو باق إلى الآن .
وقيل إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم ، وهاجر معه من أرض بابل . وقيل اسمه ملكان وقيل أرميا بن حلقيا وقيل كان نبياً في زمن سباسب بن بهراسب .
قال ابن جرير : وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب ، قال ابن جرير والصحيح أنه كان في زمن أفريدون ، واستمر حياً إلى أن أدركه موسى عليه السلام . وكانت نبوة موسى في زمن منو شهر الذي هو من ولد أبرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس ، وكان إليه الملك بعد جده أفريدون لعهده وكان عدلاً . وهو أول من خندق الخنادق . وأول من جعل في كل قرية دهقاناً وكانت مدة ملكه قريباً من مائة وخمسين سنة . ويقال إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم .
وقد ذكر عنه من الخطب الحسان والكلم البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل ، ويحير السامع ، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل . . والله أعلم .
وقد قال الله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين " .
فأخذ الله ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء وينصره واستلزم ذلك الإيمان وأخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به وينصره فلو كان الخضر حياً في زمانه ، لما وسعه إلا اتباعه والإجتماع به والقيام بنصره ، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر ، كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة .
وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبياً ، وهو الحق . أو رسولاً كما قيل ، أو ملكاً فيها ذكر ، وأياً ما كان فجبريل رئيس الملائكة ، وموسى أشرف من الخضر ، ولو كان حياً لوجب عليه الإيمان بمحمد ونصرته ، فكيف إن كان الخضر ولياً كما يقوله طوائف كثيرون ؟ فأولى أن يدخل في عموم البعثة وأحرى ، ولم ينقل في حديث حسن بل ولا ضعيف يعتمد أنه جاء يوماً واحداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا اجتمع به وما ذكر من حديث التعزية فيه ، وإن كان الحاكم قد رواه ، فإسناده ضعيف . . والله أعلم ، وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا .
ذكر الحديث الملقب بحديث الفتون المتضمن قصة موسى من أولها إلى آخرها
قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب التفسير من سننه ، عند قوله تعالى في سورة طه : " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا " : حديث الفتون .
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم ابن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى : " وفتناك فتونا " فسألته عن الفتون ما هي ؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثاً طويلاً .
فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأتنجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه ، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ففعلوا ذلك .
فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون قالوا : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونهم ، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم ، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافوا مكاثركم إياكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم .
فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يقتل فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة .
فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام ، فوقع قي قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون ، يا ابن جبير . . ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به . فأوحى الله إليها : " لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم .
فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني ؟ لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه .
فانتهى الماء به حتى أوفي عند فرضة تستقي منها جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فهممن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن : إن في هذا مالاً ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها . فلما فتحته رأت فيه غلاماً ، فألقي الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا " من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه . وذلك من الفتون يا ابن جبير !
فقالت لهم : أقروه فإنه هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل . حتى آتى فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه منى كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم . فأتت فرعون فقالت : " قرة عين لي ولك " فقال فرعون : يكون لك ، فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي يحلف به لو أقر فرعون لأن يكون قرة عين له ، كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ، ولكن حرمه ذلك " .
فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لأن تختار له ظئراً ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها ، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك . فأمرت به فأخرج إلى السوق وجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها ، فلم يقبل . وأصبحت أم موسى ولها ، فقالت لأخته : قص أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكراً ؟ أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه .
" فبصرت به " أخته " عن جنب وهم لا يشعرون " والجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به . فقالت من الفرح حين أعياهم الظئرات : أنا " أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " فأخذوها فقالوا : ما يدريك ما نصحهم له ؟ هل تعرفينه ؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ! فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك . فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئراً ، فأرسلت إليها فأتت بها وبه .
فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئاً حبه قط ، قالت أم موسى : لا أستطيع أن أترك بيتى وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه ، فأذهب به إلى بيتي ، فيكون معى . لا آلوه خيراً ، فعلت ، فإني غير تاركة بيتي وولدي ، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها ، فتعاسرت على امرأة فرعون . وأيقنت أن الله منجز موعوده ، فرجعت إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتاً حسناً ، وحفظه لما قد قضي فيه . فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم .
* * *